ظلال للسقطات (2)
نصائح أبي
(1)
ليكن ما يكون ! وماذا سيكونُ غير الذي كان،
وكيف يكون ؟ ، لا جديد في محاورة الزيتون والتين والعنب ، تعبتُ وسئمتُ
من محاورة الأحياء فكيف محاورة الأموات ؟ وكيف محاورة الأشجار ؟ سأزيلُ عن أصابعي
بقعَ الدماء ونصائح جدي ، يا إلهي كيف سقطتُ في هذا الشرك اللامتناهي ؟ ماذا
سأقولُ لأبي ؟ ماذا سيقولُ لي أبي ؟ أبي يا أبي عندما ستمرُّ في منامي في هذه
الليلة السوداء ، كعادتك المباركة في كل ليلة ، انتظرْني أتوسّلُ إليك أن تنتظرني ، لا أريدُ أن أزعجـَك
أو أن أغضبـَك في موتك ، أنا لم أقطعْ شجرة الزيتون ولم أبنِ بيتاً مكانها ولم
أقطعْ الشعرة التي امتدتْ بيني وبين الناس ، وصيتُك المحفورة في قلبي ، أنت ملاذي
وعزيمتي ، والسراجُ السماويُّ سراجُ الحكمة الذي تتقمّصُ حياتي نورَه المشع ،
انتظرني يا أبي لا سبيلَ لي في الصعود من سقوطي المزمن !
(2)
يتّخذُ أبي خصالَ العاصفة ، في هدوئها ينسابُ
كلامُه سلسبيلاً ، يلامسُ جدرانَ حياتنا
ويمسحُ ما تكدّسَ فوقها من غـمٍّ وهـمٍّ ، ويحضرُ لنا الكثيرَ من الهدايا
المتنوعة والاطعمة المشتهاة والملابس الأنيقة . وعندما يثورُ يتجاوزُ هبوبَ
العاصفة ، فنهربُ منه ونتمنى أن يمرّ هذا اليوم العاصف بسلام وأمان ، والمشكلة إن
أبي كان في رحلة صراع دائم ، في توفير وتأمين متطلبات افراد عائلتنا الكبيرة العدد
، ومتجرُهُ المتواضع لم يُعْطِـه الأمان والهدوء في ذلك .
(3)
كان
أبي متواضعاً وجريئاً والأهم صادقاً ، يكرهُ الكذبَ والتذبذبَ والاستجداءَ مثلي ،
ذو حنكـة وحكمة وسياسة في معاملته مع أهالي قريتنا ، ويوم اختبرتـْهُ الأيامُ في
مشكلة أبن عمي ، خرجَ منتصراً كعادته ، واستغربَ الاقاربُ كيف استطاعَ ابن عمي ان
ينجو من السجن المؤكد ، والجرم المشهود : رسم الصليب المعقوف على احدى ستائر
البلاستيك في الباص الذي استقلّهُ في مدينة حيفا ، وعندما رأى السائقُ فعلتَه في
المرآة توقّفَ فجأة واستدعى الشرطة التي اقتادتـْهُ الى التوقيف للتحقيق في الأمر
، وفي المحكمة في مدينة حيفا ، طلبَ أبي حقَّ الحديث ، وشرحَ للقاضي ان هذا الشاب
صغير السن ، غير ناضج فكرياً ، لا يعرفُ شيئا عن هذه الشارة الموبوءة ، علم الدولة
النازية ، تلاها بشرحٍ موسّعٍ عن النازية وجرائمها البشعة ضد الإنسانية وعن هتلر
الذي لن يغفرَ له التاريخُ عن اعماله الفاشية ، ليس هناك أي سبب أن يفعلَ الشابُ
ما فعله ، وتعهّدَ أن يهتمَّ بأمر أبن اخيه وان يُلقي عليه مهمـةَ شرح مفصل عن
الأعمال الفاشية التي قامتْ بها النازية ضد الشعب اليهودي ، كاعتذارٍ وتكفيرٍ عن
فعلته .
(4)
لا أسمعـُكَ يا أبي بوضوح : الاحتمالُ ان هذا
الشخص لا ينظرُ إلي ؟! ربما كان ينظرُ في
الفراغ المشيد في المقهى ؟! ربما كان ثمـلاً ؟! لماذا لا أذهبُ غداً الى هناك ،
أجلسُ في المقهى وأنتظرهُ ؟! هذا ما تنصحني به يا أبي ؟! وحين يحضرُ اقتربُ
منه ، ادعـوهُ لشرب القهوة أو الشاي ،
وأفاتحَـهُ بالأمر ، أسألُهُ عن كلّ شيء ، لماذا يطلقُ علي كلَّ هذه النظرات
الشرسة ؟! أدَعُ الحوارَ بيني وبينه حواراً مسؤولاً وواضحاً بدون تعقيدات وترميز ،
أعبّرُ فيه عما يؤلمُني ويشغلُ بالي ؟!
أني قلـقٌ ومتوترٌ يا أبي ، أين أنت ؟ أين
أنت ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق