إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 13 يونيو 2011

أغني وصوتي غزال - د. بطرس دلـة

أغني وصوتي غزال
                             
                                                                                   د. بطرس دلـة
                                                     كفر ياسيف

أهدانا الصديق الشاعر زياد شاهين ديوانه الذي يحمل عنوان " أغني وصوتي غزال " مشكوراً ، وكان هذا الديوان قد صدر عن مطبعة الكلمة في دالية الكرمل الطبعة الثانية عام 2010 بعد أن نفذت الطبعة الأولى .  يبدأ شاعرنا ديوانه بقصيدة وجدانية فيها الكثير من حديث الذات الحزينة بسبب الجراح والاوتار التي تنزف دمـاً ، فأوتار قلب الشاعر هي أوتار قلبه الجريح ، أوتار شعبه الجريح ، أوتار وطنه الجريح ، لذلك وبسبب هذه الجروح فإنه يعشق هذا النغم الحزين الصادر عن أوتار القلوب الجريحة والحزينة ، إنه يعشق صوت العزف الذي يُصـدّرُ الآهات لأن قلبه يتمزق كما يقول ص-8:
                            "  كلها الأوتارُ فيه
                              تـ  تـ  مـ  ز  ق
                              وعلى جرحي تمـدُّ الظـلَّ
                             قاسٍ ظلـُّها الأوتار
                            قاسٍ    فــوق
                                   جـرحي ! "
فعلى كل وتر يريد شاعرنا أن يُـعلّـقَ إما جرحـَهُ أو قلبه أو دموعه ولذلك ستصدر أصوات حزينة عن هذه الأوتار وليس شـيءٌ آخر لأنه يعشق النغم الحزين بسبب الجراح الذي يُعاني منها حتى فقدان الصبر ، صبره على الشدائد والمصائب ، ولذلك فأنه يُـصدّرُ لديوانه هذا بالكلمات التالية :
                              " يا رعاة الصبر قـِفُـوا
                                فمراعي الصبر
                             تنســاني "
إذن أنه يعاني من الجراح ، يتمزق في داخله وتنساه مراعي الصبر : فإلى متى هذه المعاناة !؟
إن عنوان الديوان غريب إلى حـدّ كبير ! فما علاقة الصوت بالغزال ؟ هذا ما لم أفهمه في هذا المجال ، لأنه لا صوت للغزال بشكل خاص فكيف يكون صوت الشاعر غزالاً ؟ حبّذا لو كان شرح لنا لماذا اختار هذا الاستهلال في ملاحظة هامشية ، الا أنه ترك ذلك ودخل في مادة الديوان حتى دون مقدمات لا منه ولا من غيره .
في قصيدته " يا كرمل يستأصلون قمرك " ( ص11-15) يعود الشاعر من جديد إلى حزنه ولكن هذه المرة على مدينته حيفا وإلى جبل الكرمل حيث ضاعت منه فلسطين وضاع منه الكرمل ايضاً وبات لديه جرح يحمل قمح الحنين. فالقاتل العادي لا يحمل لنا سوى الخيام والأطفال المشردين والجراح ! هذا القاتل هو الممثل والذي لا يستـرُ عُـرْيـَهُ سوى جثامين الأطفال الذين قتلهم ويسترعيه جرح من يعرفه منذ أن كان هو كيهودي مشرداً في الغربة !!!
في قصيدته التالية يتابع حزنه على يافا " والطلقة في الظهر " ( ص17-19) يرى أن الأنسان الطبيعي الفلسطيني خاصة في يافا ليس له معين لأن الطلقة تأتيه من كل جهات الأرض . فقد تأتيه من الغرب المستعمر أو من الشرق الشيوعي فالطلقة تردي قلبه فيأتيه الموت لذلك نراه ينادي على يافا فلا يجدُها لأنها ممثلَّـةٌ أو مُـغْـتَصَبة ! وهو حتى ولو كان يعيش في الوطن الا أنه يشد بطنه بالجوع فيفقـدُ فـِرْدَوْسـَهُ في عرس القصف العادي ، وتأتيه الطلقة الأولى في أوراق الليمون وخبز الأطفال ( ص-19) .
الدعوة الوطنية بعنفوان الشباب :
في قصيدته ست رصاصات لن تقتل ولن تجرح يضع الشاعر نفسه ذا طاقة تفوق طاقة  الكثيرين من أبناء جيله ، ففيها صحوة وطنية وفيها عنفوان الشباب : الشباب المناضلين الذين يحبون الحياة ، ويتمسكون بالأرض ، فالجليل الغاضب يريد الثأر والشباب المتظاهرون لا يمكن أن يصلوا إلى دمشق العاصمة وإلى تحقيق كل الأمنيات لأن صوت الجليل " جبارٌ " ومُـدوٍّ في كل الأرجاء ، فنحن الفلسطينيين هنا نعيش وهنا سنبقى قبلوا ذلك أم رفضوا ، فهنا تنشد الحساسين أناشيدها للصبح الندي ! وسواعد شعبنا الجبار ستنتزع رصاص المحتل حتى ولو ظل المحتل الغاضب يظل الجليل خالداً في القلب ويبقى وجهُـهُ وغناؤُهُ كوجه الحساسين وتباشير الصباح !!! ينتقل بعد هذا ليعـدّدَ ماذا سيكون مصير الرصاصات التي يطلقها المحتلُّ الغادر؟ فالشهيد سينهض من قبره لينتزع الرصاصة الأولى من جبينه ويردَّها إلى حيث أتت ! عندها سيفرح الأطفال ويبتهجون وتنمو الزهور وتتردد أصواتُ الطفال بنشيد السواعد المفتولة وتتحول الجراح النازفة إلى بنادق في أيدي الوطنيين المنتصرين في عرس النصر !
ولما كانت معظم الحركات الثورية والوطنية والمظاهرات الشعبية واضرابات ومسيرات يوم الأرض ويوم العودة كل ذلك خرج من الجليل ، إذن فللجليل مكانة خاصة في قلب الشاعر الملتهب بالوطنية الحقة ، لذلك نجده يردد النداء نداءَهُ للجليل بقوله ( ص-39 ) :
 "أقيموا الرقص في عرس الدماء
سيتلو الجرح أغنية البقاء
سيتلو الشعب أغنية الجليل
جليل يا جليل / سئمنا النوم والحلم القتيل
كرهنا الصمت والصبر الجميل
ستزهر كل غيطان الغضب
وتمحو الحزن والذل الثقيل
تبارك صوتك الجبار ثار
وعرس الحق آت لا محال
وصوت الأرض باق يا جليل "
إذن شاعرنا ينتفض شباباً ثائراً مؤمنـاً بعدالة قضيته داعياً إلى الثورة وإلى النضال العادل من أجل تحقيق الحق والمساواة لكافة المواطنين !!!
ينتقل صاحبنا في صفحة (40) إلى قصيدة " شرايين بيروت نزيف على وجه الأضحى " فيعبر فيها بشكل جلي عن نغمة شديدة تعتمل في نفسه فتقضُّ عليه مضجَعَـهُ ليرى العالم بمنظار أسود لأن هذا العالم يكيل بمكيالين ، والمزامير السكرى هي نشوة النصر !! فهل هو نصر العرب كما يريد الشاعر أم نصر العدو لأن الأنسان العربي مصابٌ بداء الهزائم فما أن يدخل معركة حتى يخسرَها وهكذا ! وبالمقابل فإن العالم هو أقواس نصر ! وطالما يرى العالم أقواس نصر إذن لماذا لا يُري العالم العربي كذلك ؟! فكيف يكزن ذلك والأمهات في الضفة وقطاع غزة يعرفون كيف يفرحون وكيف يغنون في اعراس الشهداء فتنطلق الزغاريد ويستشهد الشباب الغضُّ ولكن بدون طائل ، ويشارك هو بنفسه في معركة القدس ويستشهد لأن موته سيصبح حجارة على قبره . فهل يستفيد الوطن من هذا الاستشهاد؟ أم أن دماء الشهداء ستذهب هدراً وبدون طائل ؟!
انه صوت صارخ ضد مثل هذا الاستشهاد ولكن ليس هناك من يسمع وليس هناك من ينفّذُ حتى أن الشاعر يواكبـُه  شعورٌ بالغربة والضياع. وهذا الشعور يلازم كل أنسان فلسطيني من فلسطيني الداخل . أنه شعور بالنقمة والمرارة . شعور في نهاية المطاف لا ينتهي كما يريد الشاعر بسبب الاضطهاد وسياسة مصادرة الأراضي ، كما ان الغربة داخل الوطن أشد إيلامـاً للمرء من الغربة خارج الوطن .
ولما بات الشاعر يشعر بالغربة والضياع ، لذلك فإنه يعود إلى التاريخ القريب فيرى في جمال عبد الناصر القائد المخلص للقضية ويرى في نهجه نقاءً ثورياً لأنه لم يساوم على القضية ولا على استقلال وحرية مصر ! لذلك يدعوه إلى العودة فقد كان المارد العملاق المتحدي إزاء الملوك الصغار الصغار ! فعبد الناصر هو المارد الجبار والجبل العالي أما ملوك اليوم فهم صغارٌ حجمـاً ودوراً ، وبما أن عبد الناصر قد مات إذن فالدنيا من بعده ، دنيا العرب ستعيشُ في ليلٍ طويلٍ طويل !
الدعوة إلى الثورة : لما وصل شاعرنا إلى درجة شديدو اليأس لذلك فأنه يحاول التخلص من هذا اليأس وهذا الإحباط بالدعوة الصريحة والجريئة إلى الثورة ، الثورة على الظلم والطغيان ! والزهور لا تفي بالغرض كمت أن المفاوضات أثبتت فشلها إذن ليس أمام الأنسان الفلسطيني سوى اللجوء إلى الثورة وإلى الاحتكام إلى السلاح بقوله : ( ص-59) :
" طريق يمتدُّ إلى قلبي حبيبتي
غاضبـاً
يعلـّـقُ خنجـراً على صدر كـلِّ زهرة
حفظتها لك
وألمحه حبيبتي
في وهج عينيك ألْمـحـْـهُ ينتهي
حماسَ بندقية وثورة "
وإذا كان قد توجـه إلى جمال عبد الناصر القائد الرمز فإنه يعود ويتوجّـه إلى القائد البطل عز الدين القسام بطل ثورة 1936 ويدعوه للعودة والنضال من جديد وعدم البكاء على ضياع الوطن والجولان ، وينتهي شاعرنا إلى الشعور بالإحباط واليأس لتنتهي مسيرته في هذا الديوان بالحلم إلى الوراء ، وكل خطوة ستكون إلى الوراء .. إلا أنه يعود كعنقاء الرماد مـدّعيـاً ان حبة القمح الخارجة من السنبلة الذهبية أقوى من كل سارقي لقمة الجياع ! وحبة القمح هنا هي رمزٌ لفلسطين الصغيرة بين الدول العربية إلا أنها ستظلُّ أقوى أقوى أقوى من كل الرياح التي تحاول احتلال البلاد ! وفي قمة يأسـه يحاول في آخر قصيدة أن يحاسب الله على عاهات البشر في قصيدة وجودية بعنوان " لوحة رمل " !  فهل حقاً يكون الله مسؤولاً عن عاهات البشر؟! انه يشبه فكره هنا بأفكار الوجوديين أمثال هايديغر وكيرك هارد وجان بول سارتر، إلا أن هذا التشـبُّـه غير منطقي ، لأن من يُصاب بالتخمة يكون مسؤولاً عن إصابته بسبب إهماله لصحته ومن يلعب بالنار يحترق لذلك فإن اتّهام الـعِـزّةِ الإلهية عن أي فشل أو هزيمة فيه شـيء من الكفر والالحاد الوجودي .
لغة الشاعر:  بعد مراجعة هذا الديوان أكثر من مرة وجدتُ لدى شاعرنا الاستاذ زياد شاهين لغة عربية متينة وانطلاقـاً قويـاً في عالم الشعر الحر لأنه يخرج عن القصيدة الكلاسيكية إلى قصيدة التفعيلة كما فعل من قبله العديد من الشعراء .
انه يلجأ في عدة مواقع إلى الاستعارات التي تكسب النص جمالاً خاصـاً . مثال ذلك قولـه في ( ص-49) :
" أهزُّ الجراحَ بصهلة رمحي " !
فكيف تكون صهلة رمح الشاعر ؟!
أو في نفس الصفحة يقول : " فموتي حجارة " فلماذا يكون الموت حجارة ؟ يمجـّدُ الشاعر هنا حجارة القدس فيصهلُ رمحـُهُ وتتحوّلُ الأماني إلى الفشل وتصبح حجارة القدس شواهد فوق قبره في شرفات الوطن . وفي ( ص-33) يقول:
" أوسـِّـدُ حدقتي بـذرا
وأذرفُ من دمي مطـرا
لتـزهـرَ
نصبـةُ النارِ بأوردتي "
وهذه استعارة جميلة لأنه استعار كلمة نصبة ومعناها شتلة أو شجرة صغيرة إلى النار والنار كما نعرف تحرق الاشجار !
أخيراً أعتقد أن أجمل ما في هذا الديوان هو قصيدة " نشيد الجليل " ( ص-39) التي اقتبسنا منها بعض السطور .
فتحية خالصة لك أيها الشاعر الصديق ، وأرجو أن نلتقي بك في أبداع آخر فحتى ذلك الحين : لك الحياة !
1-أيار من عام 2011                            د. بطرس دلـة
                                                    كفر ياسيف

نظرةعامة على "أغني وصوتي غزال"- معين حلبي

نظرة عامة على شعر الشاعر زياد شاهين
في ديوانه " أغني وصوتي غزال "                                        معين حلبي- دالية الكرمل
                                               ( استاذ اللغة العربية في المدرسة الثانوية- دالية الكرمل  (سابقاً) وخريج قسم اللغة العربية جامعة حيفا )

الشعرُ الحديث" الحر" لم يكن يوماً من الأيام مسرحاً للفوضى ، يلهو به من يشاء ، ولا يستطيع كل انسان أن يكتبه لأنه ليس بغاية السهولة كما يعتقد البعض ، فيسرع ويرمي ذاته في أحضانه فيصاب بالإخفاق الذريع ، لكنا نعرف تمام المعرفة  ان الشعر الحديث له أنظمته وقيوده وايقاعه الموسيقي والفاظه المفعمة بالمعنى ، وصوره سواء أكانت عريضة أو طويلة يأتي بها الشاعر بعد طول تركيز وعناية .
أنت يا صديقي، يا شاعري، دخلتَ هذا الميدان من أوسع أبوابه وصلتَ وجلتَ فيه مُـجازاً مبدعـاً.
المجموعة تحمل عنواناً " أغني وصوتي غزال " ، وقفتُ أمام هذا العنوان حائراً ، كثير التساؤل عسى أن أهتدي إلى الإيحاء الذي اراد الشاعر إيصاله إلى المتلقي ، ويقيني أن الشاعر أراد من وراء هذا الغموض أن يترك للقارئ مساحة من التفكير ومن ثـمّ يفسره كيفما شاء ، وخاصة عندما يقرأ جُلّ القصائد التي وردتْ في المجموعة.
وقفتُ مشدوهاً أمام هذا الأبداع الفني الغني بالأحاسيس  الجياشة والمعنى الوفير، وأقولها بمنتهى الصراحة ، تفاعلتُ مع كل قصيدة ، واكتسبتُ ثروة لغوية ، عاطفية ومواقف إنسانية لا حدود لها . هذه المجموعة الشعرية تستحقُ الإطراء لأنها تشتمل على ما يلي:
سلامة المعنى ووضوح الهدف منه.                                                            
الدقة في انتقاء التعابير والحس العاطفي الذي يأبى أن يفارق أي بيت ورد في القصائد .
الايقاع الموسيقي الذي يلازم كل بيت والذي يُدخل إلى قلب القارئ النشوة والطرب .
انفعال عاطفي صادق ومقدرة فنية عظيمة في توضيح ما رغبتَ في ايصالـه.
المقدرة على مزج المشاعر المرهفة الصافية النقية مع العمل الفني الشعري لدرجة إذا شعرت كتبت ، وإذا كتبت عبرت على أنك قادر على الكتابة ، ليس لأنك تريد أن تظهر أحاسيسك وواقعك بشعر وجداني ، كثير العاطفة عذب اللفظ مع إيقاعات موسيقية متنوعة راقصـة .
النغمة الموسيقية الحزينة التي طغت على القصائد ووضعت المتلقي في أجواء الحيرة والتسـاؤل !!! لماذا ؟!
شعر واقعي بكل معنى الكلمة مع سعة اطلاع على ما يدور حولك . القصائد متكاملة الأجزاء ومنسقة ليست مجرد عبارات مبعثرة من هنا وهناك ، لها قمـة شعرية . الأبيات فيها تتسارع لدعم الفكرة وتنويرها ، مزودة بأفكار عميقة وصور شعرية دافقة بالحيوية محركة ومكثفة . الصورة الواحدة تمسك بالأخرى لتوضيح الفكرة ناهيك عن الانفعالات التي لا حصر لها ، مع جرس موسيقي ، كل هذه الأمور تتحد مع بعضها في بناء وحدة عضوية متكاملة غير مفككة .
أما المضامين التي طـُرحتْ في قصائد الديوان فهي متنوعة ، انسانية ، انسانية عاطفية ، انسانية وطنية . هذا يعني انها كلها تصطف في خانة الإنسانية التي من شأنها أن تحكي قضايا الأنسان المتنوعة في واقعنا المعاش .
خاتمة :
الشاعر الصديق : ابن بلدي زياد شاهين ، بلا شك إنك تتمتع بهوية شعرية خاصة . غصـتَ في بحر الالفاظ واخترتَ الالفاظ الشعرية ووضعتها في مكانها المناسب في القصيدة . أحببتُ الايحاء فأتى طوعـاً وبإرادته  وتمكنت بخبرتك الشعرية توظيفه بشكل رائع في القصائد .جاءتك الرموز والاشارات تنساب هادئة بحيث وضعتها في ثنايا القصائد وعكستْ بدورها ظلالاً على القارئ . أبيتَ ألا أن يكون الصدق الشعري صاحب تجربتك ، لذا كنتَ صادقاً مع نفسك أولاً وثانياً مع واقعك .
وأخيراً ، سوف أقوم بشرح قصائد المجموعة وتحليلها في وقت لاحق .

الأربعاء، 1 يونيو 2011

الشعر هو الكتابة الملونة - فاضل جمال علي

الشعر هو الكتابة الملونة
أغني وصوتي غزال للشاعر زياد شاهين
                                                          بقلم : فاضل جمال علي
الشعرُ هو الكتابة الملونة ، وهو الكتابة المدوزنة على إيقاعات النفس البشرية ، هو الكتابة بين السطور وخلف السطور، وهو الإيحاء الذي يؤكد أن المعنى في قلب الشاعر ، تاركـاً للقارئ مساحات شاسعة لتداعيات أفكاره وهواجسه حين يتعامل مع النص . وهذا يُحوّل النص إلى مشهد من المناخ الطبيعي ، نسبر أغواره تارة ، وتتبدل كل يوم معالمُ هذا المشهد المناخي مرة بعد الأخرى .
النص الشعري هو النص المتحرك وليس الثابت ، هو النص الذي لا يموت بعد قراءته الأولى والثانية والثالثة ، وهو النص المفعم بقيم الجمال والموسيقى ، وبالقيم الفنية التي تمسحه بالسحر والجمال ، والإيحاء في الكتابة الشعرية هو الذي يفتح أبواباً لأبعاد أُخرى ، حين يعتمد الشاعر لغة مجازية شعرية ، أذ يرتدي النص عند ذلك زيـّـاً فنيـاً احتفالياً يميزه عن سائر النصوص الأدبية .
هذا ما راودني في معاينتي لديوان الشاعر زياد شاهين ، وبعد قراءة تفاعلية ، لأُركز في هذه الكتابة على الجانب الفني الشعري في كتابته ، والتي يتميز بها الشاعر بحرصه على تحمل مشقات الكتابة ، وفي إخراج القصيدة إلى حيز الحياة.
هذه الدلالات تلوح جليـاً في عنوان الديوان " أغني وصوتي غزال " ، وهي صورة غنية ورائعة ، فالصوت هو ضمير الشاعر ، والغزال هو قلب الشاعر ، الذي يتحول في إطارات طبيعة هذا الضمير ، متفاخراً بجمالـه الغزالـيّ ، وحذراً كالظبي المعرض لـشـُرُك الغابة – الحياة ، ثـمّ يأتي الإيحاء الفلسفي في الإهداء :
" يا رعاة الصبر قـٍفــوا
 فمراعي الصبر تنسانـي "
وهو بذلك يطرح فلسفة وجودية عميقة حول الموجود والمنشود ، ومن هذا التوجه الفلسفي يحيا الشاعر حياته في خندق الجرح ، ويكتب شعره المتناغم مع نفسـه الحيوية لكي يتمكن من التسلق على سلم الكلمات .
وفي القصيدة الأولى " عزف قاس على أوتار ناعمة "  ، نلمس أوتار الشاعر الرقيقة ، ونتضامن مع احتجاجه حين يُرغم على العزف القاسي ، والذي يتنافى مع ماهية الشاعر الأولية ! ، وفي جملة " أُكبرُ الصمت الذي فيه التقينا واضطرمنا " ، يخلع الشاعر أمامنا قبعة الإخفاء ، لنضع بأنفسنا تفاصيل اللوحة المثيرة ، وحين يقول: " وصبايا العشق كانتْ / تحمل الصبر نعوشاً وجنازهْ " " وانشدي حتى يعود الصبرُ في الحانات يسكرْ " ، فالصبر هنا هو وجه المعاناة اليومية المزمنة ، معاناة شاعر انتدب شعره صوتاً تبشيرياً ، وذلك نتيجة حتمية من قوله:
" علقي في أول الأوتار قلبي ، دوزني وقع الجراح "
" علقي موتي وفرحي ووطني وانشدي "
" واعزفي هذا الألــمْ " .
وحين " يستأصلون قمر الكرمل " ، بدون الحصول على توقيع وإذن الشاعر ، يكتب برفض شاعري " حـُمّـلـتُ هذا الليل " ، ويمضي حاملاً بين أهدابه " حسونـاً ولوزاً من فلسطين معي " ، في مرثية لجبل الكرمل المتصدع القسمات " مذ عادتْ بلا قمر عيون العاشق المقتول " ، وهنا نشهد عودة النص كدلالة عينية لصرخة حيفا الكرملية .
" ست رصاصات لن تقتل ولن تجرح" يستهلها الشاعر بمقدمة جميلة :
دمي غمدٌ ، وشوقي السيفُ والسيّافُ
يا مطر الجليل تغلُّ في نبضي
تسّولني الجفاف"                                                                                 
هذه المقدمة ، تعكس اختلاجات الشاعر في يوم الأرض ، وحالة استقبالية لما كان وما سيكون ، والقوة الهائلة تنعكس من جملة " تسّولني الجفاف " ، حيث يعلن الشاعر استعلائه وشموخه حيال الجفاف المستضعف من قبل هذا الشاعر تحت وابل الرصاصات .
وإذا كانت حياة الشاعر تتمحور حول جرحه الذاتي المتفرع من جرح شـعبه ، فإن هذه القصيدة تعرض مساراً جميلاً للخروج في نهاية سعيدة بعد خوف البداية :" خوفي إذا سقطتْ فروع الشمس / خلف خمائل الأيام واشتد المطرْ" ، حتى العودة في الرصاصة السادسة : " يعودُ بعرق زيتون ٍ بمنديلٍ وسـكينِ / يُعـّـصبُ جبهة الجرح / بأوراقٍ من التين " ، وهذه القصائد مشبعة ( لا حتى الإثقال ) بالصور التي تمنحها الطاقات الوجدانية ، والاستعارات التي تقولب المعاني في لوحات مفتوحة البراويز: " أرتلها نداءات العصافير المكسرة الجناح صلاةْ " ( مطلع القصيدة ) " أرتلها نداءات العصافير المصفقة الجناح صلاةْ " ( اختتام القصيدة )  ، وفي الرصاصة السادسة :" وفصّـل دمع عينيه مناديلاً / وأعطاها لأمـه كي تكفكفَ دمع عينيها / وتضمدَ جرح أمتـه " ، وهذه شواهد على ارتقاء لغة الشاعر إلى المجازي الممتنع الذي يأبى الوقوع في شـرك التغريب المدقع ، ليبقى النص ذا رمزية وانصياع في نفس الوقت وليس مبتذلاً ومستهلكـاً .
" عقارب الساعة تشير إلى الموت " هي لوحة أخرى تبعث القشعريرة في النفس ، أختارها الشاعر لبداية قصيدة شرايين بيروت ، وهي تشير إلى معاينة من نوع جديد لعامل الزمن ، أو بالأحرى انعدام هذا العامل من تعدادنا ، فحين يموت الأطفال في بيروت يبرز جليـاً عدمية قيمة تأريخ الأحداث الأخرى، وهذا عمق تعبيري بعيد الأعماق ، ثم يتلوها بصور شعرية متعمدة : " انقطاع . نأسف لهذا الخلل المقصود " و" موسيقى فلسطينية لربع قرن أو أكثر " و " العالم مرثاة كبرى / أوراق أحرفها الدهر " و " العالم أقواس النصر " ، وهنا انعكاس لحقيقة الشاعر الإنسانية المصيرية في كونتراست  وتقاطب عكسي مع زيف العصر .
"على شرفات الوطن " يتغنى الشاعر وصوته غزال تحبه كل الصبايا ويحبه شعبُهُ فتصيرُ الأماني جواداً ، هذه القصيدة التي يُمجّـدُ ويجسدُ الشاعر فيها طفولة بؤسـه وحجارة قدسه – قـُـدْسـِنا ، هي راية العاشق الذي يصول ويجول في تعددية الشرفات ووحدوية الوطن ، وتأتي قصيدة " غريب " بعد هذه القصيدة كجواب ٍ ينفي الغربة المنسوبة إلى الشاعر الملدوغ بأفاعي صمـت الرجال .
والقصيدة ألأخيرة التي أردتُ التطرق إليها هي " حلم قديم ممتد " وهي قصيدة بعيدة المعاني تشير إلى الحياة بأكملها ، نحلم ونصحو من الحلم ، نسير إلى الأمام وإلى الوراء في رحلة متواصلة للتحقيق الذاتي الوجداني من قمة إلى قمة ، ومن نشوة إلى أخرى في مسيرة الصعود والهبوط ومفارقات اللقاء والوداع ، مُضمخـَـين بشذى تجارب الحلم الحياة :
" وجهي / وجهك/ بائعُ وردْ / حلمٌ قديم ٌ ممتدْ / أورق وجهي وجهَكِ/ أزهر وجهُك وجهي أجمل وردْ " ، وهنا تتجلى مدى مشاركة الشاعر العاشق في تجربة العشق – الحياتية الملتزمة والسير في السراء والضراء سعيداً وقانعاً بما يعطيه وما يأخذه منصفـاً ومناصفاً بعيداً عن الملكية والتسلط .
أغني وصوتي غزالْ هو ديوان شعر يدعو القارئ الراقي إلى النزالْ .
ومن المؤكد سيخرج القارئ غنيـاً وسعيداً بعد أن جاب عالماً مرصعاً باللغة التصويرية التي تسلمه مفاتيح مكنوناتها على أروقة فكر وفلسفة الشاعر الذي بدوره يفتح أبواب النص الإبداعي على مصراعيه .


** أغني وصوتي غزال  مجموعة شعرية جديدة للشاعر زياد شاهين ، صدرتْ عن مطبعة الكلمة في دالية الكرمل