إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 22 مايو 2013

ظلال للسقطات (1)

ظلال للسقطات(1)




                                         نصائح جدي

(1)

يضيقُ ما اتّـسعَ من فرحٍ أو غبطة في ثنايا حشاشتي ، قد أبلغُ في لحظـة مأزومـة سماءَ الإرباك والتساؤل :

-جدي يا جدي ، أعتذرُ منك لأنني أيقظتـُك من موتك الأخير ، ما العملُ ؟ ما رأيك بهذا الشخص المشتعل في الركن ، يلسعني بجمرات نظراته ، وبحق السماء والأرض والزيتون والتين أنني لم أره من ذي قبل ، كائناً كان أو خيالاً مـرّ في أحلامي المتعددة ؟

(2)

أشعر بالفرح لأنني تجرأتُ وأيقظتُ جدي وكسرتُ عظامَ الخوف والرهبة ،جدي يحبني كثيراً ويقسمُ دائما أنه يستطيعُ أن يحققَ لي كلَّ طلباتي المستحيلة  وأنا محتاجٌ إلى نصائحه الصائبة والثاقبة ، هو ميتٌ من ربع قرن أو أكثر ، مثل الكثير من الأحياء المتشبثين في هذه الحياة ، ويبدو لي أنه في الطريق إلى الجنة المنشودة ، أتمنى له ألا يضلّ الطريق ، لأنه نذرَ نفسَه في الذود عن شجرة زيتون ، كان قد غرسَها أبوه في البستان المرشح لمواجهة المجنزرات الدامية والاستئصال المشروع آنذاك. هو وشجرة الزيتون توأمٌ مغروسان في أرض طيبة ومقدسة، وفي أعلى فروعهما تنبتُ ثمارُ الشجاعة والمروءة والفخر والحكمة.

(3) 

أذكر أنه كان يرتدي قمبازاً من حرير الأطلس المـُـقـلّم ، ويعتمرُ فوق رأسه حطـةً بيضاءَ وعقالا أسودَ لم يفارقْ رأسَهُ ، منذ لقاء الدموع والفرح مع أحد أصدقائه من مدينة نابلس ، والذي أهداهُ العقالَ تعبيراً عن صداقـة أبدية لم يصدعْها الاحتلالُ المتكرّرُ، وكان يختالُ كالطاؤوس حتى غدرَ بـه جوادُه الأبيض الأصيل وسقط عنه ، مشهدٌ متكررٌ في أيامنا ، وأصيبَ بشلل نصفي لم يثـْـنـِهِ عن الخروج من البيت ، ولم يسلبْـه التلذذ في إبداع النكت الساخرة والقصص النابضة والأغاني الشعبية التي وُئدتْ ورميناها بالحجارة العصرية .

(4)

في أحدى الصباحات ، عندما وقفَ جدي أمام بيته في الحارة الغربية ، لمحَ جاره أبا صالح في الجانب الآخر من الشارع ، وأبو صالح رجلٌ مـسنٌ جارَ عليه الزمن ، ومرضَ بداء الشلل ، يتكأ على عكازتين ،يسيرُ بخطوات وئيدة جداً، فتخالُـه أنه واقفٌ لا يتحرك ، يحاولُ أن يقطعَ الشارع ، الأمرُ الذي يتطلّـبُ منه الكثيرَ من الصبر والوقت بسبب حالته التعيسة ، وما أن رآه جدي حتى ضحكَ ضحكة مجلجلة وصاح بأعلى صوته : وين شارد يا غزال الحي ؟ هذه الحادثة ، نزرٌ يسيرٌ من القصص والحوادث التي روتها لي أمي ، بعد أن رحلَ جدي ليسكنَ بجوار ربـه ، وكم كنتُ أشعرُ بالنشوة والعزة كلما سمعتُ هذه القصص !

(5)

 ( تنبيه : الرجاء عدم قراءة ما يلي من النص  على أسماع الأطفال وضعفاء القلوب والعقول ، من باب المسؤولية ونبذ العنف المتفشي والوحشية المقرفة في عالمنا )

-        جدي يا جدي ما العمل ؟ ماذا علي أن أفعل ؟ 

 

جدي ، قد بدا عليه الغضبُ والتوتّـرُ ، يمناهُ وحتى يسراهُ المشلولة ترتفعان في الهواء وتؤلفان مع لسانه لغـة بركانية ، صوتـُه مخنوقٌ يجثمُ عليه الغبارُ والتراب ، يرفع يمناه ، يُبْعدُ أصبعيه المنتصبتين السبابة والوسطة كأنهما صاروخان ، ويضمُّ بقية أصابعه إلى بطن كفـه ويصرخُ كالمصعوق : أغرزْ أصبعيك في عينيه ، أقحفْ عيني أبن الساقطة هذا وليكن ما يكون !

ليست هناك تعليقات: